نعيش الآن بين العشرات من أجهزة الحاسوب الشخصية، ونتفاعل مع المئات من الآلات في المنزل، مقر العمل، وسائل النقل، وحتى في المسجد. هذا التفاعل السلس والذي لا يحتاج إلى تعلم مسبق (في الغالب) لم يتم عن طريق الصدفة. بل سبقه مئات الساعات في البحث والتجريب حتى يتم تصميم هذه العملية التفاعلية بشكل يلائم الإنسان ويحترم إنسانيته.
التفاعل بين الإنسان والحاسب (HCI) Human Computer Interaction هو مجال وتخصص فرعي في علوم الحاسب، يبحث ويدرس طريقة تفاعل الإنسان مع الأنظمة الحاسوبية، ويحاول الارتقاء بها إلى أفضل مستوى، بحيث يحقق هدف أساسي، وهو سهولة وسلاسة هذا التفاعل، ومن ثم نجاحه في نهاية المطاف.
هذا التخصص يحتضن مجالات وموضوعات قد تكون أشهر من التخصص ذاته، مثل: تجربة المستخدم، تصميم واجهات المستخدم، التعهيد الجماعي، الحوسبة الاجتماعية. الباحثون والعاملون في هذا المجال يأتون من خلفيات أكاديمية مختلفة، أهمها: علوم الحاسب، علم النفس، التصميم الصناعي، وتصميم المنتجات.
قد يكون الظهور الحقيقي الأول لهذا المصطلح HCI في الثمانينات الميلادية من القرن الماضي، تحديدا بعد ظهور ثورة الحواسيب الشخصية. لكن قبل ذلك، يذكر الباحث "جرودين" (2)، أن هناك تطورات مفصلية، أدت إلى تبلور الأفكار في هذا التخصص:
إن كل تقدم تقني هو قبل كل شيء تقدم الجاسوسية والجيش، وبعدها بقية الأشياء. هكذا كان الأمر دائماً -علي عزت بيجوفتش
أدت مخرجات الثورة الصناعية إلى تطوير آلات متطورة. خلال الحرب العالمية الثانية، تم وضع القدرات البشرية في التعامل مع الآلات المعقدة نسبيا، مثل الطائرات والدبابات، تحت اختبار حقيقي. الآلاف من الحوادث للطيارين العسكريين تم تسجيلها، بسبب ما يعتقد أنه بعض الأخطاء والتعقيد في تصميم مرافق الطائرات، تحديدا في العصا الخاصة بفتح باب الهروب في الطائرات العسكرية.
بعد نهاية الحرب، ظهرت الحاجة إلى مراجعة ومناقشة الخيارات التصميمية للطائرات. تم بعدها تأسيس مجتمع "العوامل البشرية - human factors" من قبل أخصائيين في مجال "علم النفس المختص بالطيارين". هذا المجتمع أصبح لبنة الأساس التي قامت عليها المجتمعات الحديثة، التي تبحث وتدرس هذا التفاعل الإنساني-الآلي.
في الفترة 1945 - 1970 بدأت الحواسيب الضخمة في الظهور. تشغيل الحاسوب الواحد كان يحتاج فريق متكامل من مبرمجين، إداريين، ومشغلين يقومون بالتفاعل الحقيقي مع الآلة، باستخدام المفاتيح والبطاقات الحاملة للأكواد البرمجية. أول الأبحاث الأكاديمية المنشورة في مجال HCI كانت في نهاية الخمسينيات، وكانت تناقش تسهيل مهمة مشغلين الحاسب عن طريق تحسين تصميم مفاتيح التشغيل والشاشات.
مع مرور الوقت، أصبح الاعتماد على الحاسب يتغلغل في المجتمعات أكثر فأكثر. في بعض الأعمال والمسارات التجارية، أصبح الموظفين لا منأى لهم من استخدام الحاسب والتفاعل معه، مثل مهام حجوزات الطيران وتداول الأسهم. هذا الاعتماد وضع مزيدا من الضغط على المجتمع البحثي في طرح تصورات وتأصيلات في كيفية التفاعل الإنساني الحاسوبي. الأفكار مثل استخدام الأيقونات والفأره ، بدأت في الظهور بشكل نظري تخيلي، ما لبث أن أصبح واقعا.
حتى المبرمجين كان لهم نصيب. تسهيل عمل المبرمجين كان أحد أهداف تلك الحقبة، كالتركيز على تطوير لغات البرمجة المختلفة. ثم بعد ذلك تبلورت أفكار تنظيمية مثل البرمجة الكائنية Object Oriented Programming.
المستخدم ليس مشغلا، هو لا يقوم بتشغيل الحاسب، بل يتواصل معه - The Psychology of Human-Computer Interaction
في عام 1981 أنتجت IBM أحد أول الحواسيب الشخصية الناجحة تجاريا. من أسرار النجاح فريق عمل كان يضم نخبة من المتخصصين المهتمين بتسهيل مهمة "التكيف الإنساني" مع هذا الحاسب. من ضمنهم مختصين في تصميم المنتجات وعلم النفس الإدراكي.
في قطاع الأعمال، بدأ استخدام قواعد البيانات بشكل مكثف. ظهرت معها الحاجة إلى تسهيل عملية إدخال البيانات من قبل المستخدمين. كان ذلك يتم عن طريق الاختبارات التجريبية، وملاحظة عملية الإدخال لمجموعات مستخدمين مختلفة، ثم اقتراح تحسينات معينة.
1983 شهد ولادة المؤتمر البحثي الأكثر شهرة ACM CHI. المؤتمر الأول جذب اهتمام أكثر من ١٠٠٠ شخص من تخصصات مختلفة.
ويندوز 3.0 (تم إطلاقه في 1990) كان النظام الأول الناجح الذي برز فيه استخدام الواجهات الرسومية في الحواسيب الشخصية، بعد محاولات تجريبية سابقة قاربت ١٠ سنوات. تبنّي المستخدمين لهذه الواجهات أدى إلى تحول حقيقي في اهتمام المتخصصين، حيث أصبح تركيزهم ينصب على تطوير هذه الواجهات.
ثورة الإنترنت في بداية الألفية الجديدة أو "فقاعة الانترنت" جلبت اهتمام بالغ من القطاع التجاري. كان الهدف تصميم مواقع ويب مناسبة للمستخدمين، كمواقع التجارة "شبه" الالكترونية والتي كانت رائجة في ذلك الوقت. هذا الاهتمام التجاري قضى تقريبا على نظرية الاعتماد الأوحد على الدعم الحكومي لبحوث التفاعلية. كانت الأبحاث تقودها الرغبة الحكومية مثل تحسين الأدوات والمعدات العسكرية، والاهتمام التجاري بعدها سلط التركيز على مفاهيم مثل تحسين تجربة المستخدم.
أرى شخصيا أن هذا التفاعل من الممكن تقسيمه إلى مرحلتين: في أي عملية تفاعلية (لنقل مثلا زيارة مستخدم موقع ويب) المرحلة الأولى من هذا التفاعل يجب الحرص تماما على نجاحه (مثلا: المستخدم يستطيع الاستفادة من جميع خدمات الموقع بدون معوقات)، بينما المرحلة التالية هي بمثابة "إضفاء السكر التجميلي على الكعك" وارتقاء هذا التفاعل إلى مستويات أعلى (مثلا: المستخدم يستمتع بزيارة الموقع ويشعر بمشاعر إيجابية).
يعتقد أستاذ التفاعلية "براد مايرس" في مقالته المنشورة 1998 (4) أنه من الضروري جدا لطلاب علوم الحاسب الاطلاع على مشاكل واجهات المستخدم المعتادة وطرق التعامل معها، وأنهم لن يخدموا متطلبات الصناعة التقنية في حال عدم إلمامهم بتصميم الواجهات. كما أنه مع استمرار تطور عتاد الحاسب فائق السرعة، تصبح القيمة التنافسية المضافة هي في واجهات المستخدم، والتي تستهلك بالضرورة قدرات هذا العتاد.
وأخيرا يذكر جرودين أن أهداف التفاعلية الناجحة هي: أخطاء أقل، أداء أسرع، قابلية للتعلم والتذكر السريع، والمتعة في الاستخدام.
(1) الترك لاعب الشطرنج: https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B0%D9%8A_%D8%AA%D9%88%D8%B1%D9%83
(2) المصدر الأساسي لهذه التدوينة: http://people.csail.mit.edu/emax/papers/Desktop/01549796.pdf
(3) windows 3.0: https://en.wikipedia.org/wiki/Windows_3.0
(4) https://www.cs.cmu.edu/~amulet/papers/uihistory.tr.html